فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ}.
تُضمرونه من العقائد والأعمال {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي تظهرونه منهما، وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم، وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية ما لا يخفى، وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سورة البقرة وسورة هودٍ من تحقيق المساواة بين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن، أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب، فتعلّقُ علمه تعالى بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية.
{والذين يَدْعُونَ} شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً، وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البيان لكنها شُرحت للتنبيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح، أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار {مِن دُونِ الله} سبحانه، وقرئ على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من الأشياء أصلًا أي ليس من شأنهم ذلك، ولما لم يكن بين نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أُثبت لهم ذلك صريحًا فقيل: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي شأنُهم ومقتضى ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد، وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بين ما أثبت لهم وبين ما نُفي عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية، وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله، ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغةً في كونهم مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذانًا بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم، وأما جعلُ الأول أيضًا عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له، إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلًا، ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياء صرح بذلك فقيل: {أَمْوَاتٌ} وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ.
وحيث كان بعضُ الأموات مما يعتريه الحياة سابقًا أو لاحقًا كأجساد الحيوان والنطفِ متى يُنشِئها الله تعالى حيوانًا احتُرز عن ذلك فقيل: {غَيْرُ أَحْيَاء} أي لا يعتريها الحياة أصلًا فهي أمواتٌ على الإطلاق وأما قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما يشعر أولئك الآلهةُ أيان يُبعث عَبَدتُهم فعلى طريقة التهكمِ بهم لأن شعورَ الجماد بالأمور الظاهرة بديهيُّ الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفيه إيذانٌ بأن البعث من لوازم التكليفِ وأن معرفةَ وقته مما لابد منه في الألوهية. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} أي تضمرونه من العقائد والأعمال {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما الأول: فلأن علم الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته، وكثيرًا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني: فبناء على ما قيل: إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر، ومن هنا قيل: إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولًا بقوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17]، وأبطله ثانيًا بقوله تبارك اسمه: {والله يَعْلَمُ} إلخ. كأنه قيل: إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئًا أصلًا فكيف يعد شريكًا لعالم السر والخفيات.
وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارًا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور، وفي الثانية: ما يشعر بأنه قصروا في هذا الميسور أيضًا فاستحقوا العتاب.
{والذين يَدْعُونَ} شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لايعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار {مِن دُونِ الله} سبحانه: {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من الأشياء أصلًا أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل: هم لا يخلقون شيئًا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل عليه: إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بني الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغًا عنها، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهنًا وخارجًا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزأ من الدليل، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولًا، وحيث أنه لا تلازم أصلًا بين نفي الخالقين وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحًا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل، وبناء الفعل للمفعول كما قال بعض الأجلة لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفى عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله، ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى، والمراد بالخلق منفيًا ومثيتا المعنى المتبادر منه.
وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم والتعبير، عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضًا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلًا.
وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في {تُسِرُّونَ} وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو، وحمزة، وقرأ الأعمش: {والله يَعْلَمُ الذي تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ والذين تَدْعُونَ} إلخ. بالتاء من فوق في الأفعال الثلاث، وقرأ طلحة: {مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني {مَّا يَدَّعُونَ} بضم الياء وفتح العين مبنيًا للمفعول أي يدعونم الكفار ويعبدونهم.
{أَمْوَاتٌ} خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيًا.
وقوله سبحانه: {غَيْرُ أَحْيَاء} خبر بعد خبر أيضًا أو صفة {أَمْوَاتٌ} وفائدة ذكره التأكيدة عند بعض، وأختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل: هم أموات حالًا وغير قابلين للحياة مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في {أَمْوَاتٌ} عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلًا كالأصنام.
و{غَيْرُ أَحْيَاء} على هذا إذا فر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسًا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى كونهم أمواتًا لابد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت، وجوز في قراءة: {والذين يَدْعُونَ} [النحل: 20]. بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيهًا لهم بالأموات لكونهم ضلالًا غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من البعد {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال الراغب: يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علمًا في الدقة كإصابة الشعر، قي: وسمي الشاعر شاعرًا لفظنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسًا يكون معقولًا، و{أَيَّانَ} عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله عنده بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى.
وقرأ أبو عبد الرحمن {إيان} بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم، والظاهر أنه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب بيشعرون لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم، وهذا من باب التهكم بهم بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير.
وفي البحر أن فيه تهكمًا بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لابد منه في الألوهية، وقيل: ضميرا {يَشْعُرُونَ} للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل: الكلام تم عند قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} و{أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ظرف لقوله سبحانه: {إلهكم إله واحد} على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4]. قال أبو حيان: ولا يصح هذا القول لأن {أيان} [النحل: 21]. إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفًا إما استفهامًا أو شرطًا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافًا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه: {إلهاكم} تصريح بالمدعي وتخليص للنتيجة غِبَّ إقامة الحجة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)}.
عطف على جملة {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [سورة النحل: 17].
فبعد أن أُثبت أن الله منفرد بصفة الخلق دون غيره بالأدلّة العديدة ثم باستنتاج ذلك بقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} انتُقل هنا إلى إثبات أنه منفرد بعموم العلم.
ولم يقدم لهذا الخبر استدلال ولا عقّب بالدّليل لأنه مما دلّت عليه أدلّة الانفراد بالخلق، لأن خالق أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة يجب له أن يكون عالمًا بدقائق حركات تلك الأجزاء وهي بين ظاهر وخفيّ، فلذلك قال: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}.
والمخاطب هنا هم المخاطبون بقوله تعالى: {أفلا تذكرون} [سورة النحل: 17].
وفيه تعريض بالتهديد والوعيد بأن الله محاسبهم على كفرهم.
وفيه إعلام بأن أصنامهم بخلاف ذلك كما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي فإنه يفيد القصر لردّ دعوى الشركة.
وقرأ حفص: {ما يسرون وما يعلنون} بالتحتية فيهما، وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة.
وعلى قراءته تكون الجملة أظهر في التهديد منها في قصد التعليم.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}.
عطف على جملة {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [سورة النحل: 17]، وجملة {والله يعلم ما تسرون} [سورة النحل: 19].
وما صدْق {الذين} الأصنامُ.
وظاهر أن الخطاب هنا متمحّض للمشركين وهم بعض المخاطبين في الضمائر السابقة.
والمقصود من هذه الجملة التصريح بما استفيد ضمنًا مما قبلها وهو نفي الخالقية ونفي العلم عن الأصنام.
فالخبر الأول وهو جملة {لا يخلقون شيئًا} استفيد من جملة {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [سورة النحل: 17]، وعطف {وهم يخلقون} ارتقاء في الاستدلال على انتفاء إلهيتها.
والخبر الثاني وهو جملة {أموات غير أحياء} تصريح بما استفيد من جملة {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} [سورة النحل: 19]. بطريقة نفي الشيء بنفي ملزومه.
وهي طريقة الكناية التي هي كذكر الشيء بدليله.
فنفي الحياة عن الأصنام في قوله: {غير أحياء} يستلزم نفي العلم عنها لأن الحياة شرط في قبول العلم، ولأن نفي أن يكونوا يعلمون ما هو من أحوالهم يستلزم انتفاء أن يعلموا أحوال غيرهم بدلالة فحوى الخطاب، ومن كان هكذا فهو غير إله.
وأسند {يخلقون} إلى النائب لظهور الفاعل من المقام، أي وهم مخلوقون لله تعالى، فإنهم من الحجارة التي هي من خلق الله، ولا يخرجها نحت البشر إيّاها على صور وأشكال عن كون الأصل مخلوقًا لله تعالى.
كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام قوله: {والله خلقكم وما تعملون} [سورة الصافات: 96].
وجملة {غير أحياء} تأكيد لمضمون جملة {أموات}، للدلالة على عراقة وصف الموت فيهم بأنه ليس فيه شائبة حياة لأنهم حجارة.
ووصفت الحجارة بالموت باعتبار كون الموتتِ عدم الحياة.
ولا يشترط في الوصف بأسماء الأعدام قبولُ الموصوفات بها لملكاتها، كما اصطلح عليه الحكماء، لأن ذلك اصطلاح منطقي دعا إليه تنظيم أصول المحاجة.
وقرأ عاصم ويعقوب {يدعون} بالتحتية.
وفيها زيادة تبيين لصرف الخطاب إلى المشركين في قراءة الجمهور.
وجملة {وما يشعرون أيان يبعثون} إدماج لإثبات البعث عقب الكلام على إثبات الوحدانية لله تعالى، لأن هذين هما أصل إبطال عقيدة المشركين، وتمهيدٌ لوجه التلازم بين إنكار البعث وبين إنكار التوحيد في قوله تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالأخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22].
ولذلك فالظاهر أن ضميري {يشعرون} و{يبعثون} عائدان إلى الكفّار على طريق الالتفات في قراءة الجمهور، وعلى تناسق الضمائر في قراءة عاصم ويعقوب، والمقصود من نفي شعورهم بالبعث تهديدهم بأن البعث الذي أنكروه واقع وأنهم لا يدرون متى يبغتهم، كما قال تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} [سورة الأعراف: 187]، والبعث: حقيقته الإرسال من مكان إلى آخر، ويطلق على إثارة الجاثم، ومنه قولهم: بعثتُ البعير، إذا أثرته من مَبركه.
ولعلّه من إطلاق اسم الشيء على سببه، وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت. فمن كان منهم ميتًا فبعثه من جدثه، ومن كان منهم حيًا فصادفته ساعة انتهاء الدنيا فمات ساعتئذٍ فبعثُه هو إحياؤه عقب الموت، وبذلك لا يعكر إسناد نفي الشعور بوقت البعث عن الكفّار الأحياء المهدّدين.
ولا يستقيم أن يكون ضمير {يشعرون} عائدًا إلى {الذين تدعون}، أي الأصنام.
و{أيان} اسم استفهام عن الزمان.
مركبة من {أي} و{آن} بمعنى أي زمن، وهي معلقة لفعل {يشعرون} عن العمل بالاستفهام، والمعنى: وما يشعرون بزمن بعثهم.
وتقدم {أيان} في قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيّان مرساها} في سورة الأعراف (187). اهـ.